سحب الجنسية من أبطال المقاومة والشهداء
ذاكرة الدم تُقابل بالجحود والعدل غائب
- المحرر د. عبدالله محمد الصالح
انكسار المعنى
الوطن لا يُقاس بحدوده الجغرافية وحدها، بل بذاكرة أبنائه وبطولاتهم. والكويت، التي عانت مرارة الغزو الصدامي، تواجه اليوم جرحا أعمق من الغزو نفسه: سحب الجنسية من رجال قاوموا المحتل، ومن أسر شهداء ارتوت أرضها بدمائهم. ليست المسألة أوراقا تُسحب أو تُمنح؛ إنها طعن في معنى الانتماء وانتهاك لجوهر العدالة. وكيف يغيب العدل والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾.
امتحان الوطنية
الاحتلال يضع المواطن أمام أربعة مسارات: أن يصمد، أو يقاوم بالسلاح، أو يقاوم بالكلمة، أو يقدّم نفسه شهيدا. وفي المقابل، هناك الخائن.
بيد أن الصورة في الكويت انقلبت: المقاوم يُعاقب، والشهيد يُسلب حقه، أما سُرّاق الدولة في الغزو فجنسياتهم بقيت آمنة مصونة، وكأنها فوق الحساب. ظلم فادح يخلد في ذاكرة التاريخ.
وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا». إن ما جرى ليس قرارا إداريا، بل خيانة لقيمة الوفاء واغتيال للعدل الذي أمر الله به.
أبطال بلا هوية
عام 1990، لم يكن هناك جيش يحمي الأرض ولا سلطة قائمة، بيد أن رجالا بلا سند ولا جنسية خرجوا يقاومون بما أُوتوا من قوة دفاعا عن حياض الوطن. ومن بينهم حامد مطني الشمري وجابر حسن العصيمي من فئة البدون، وقد شهد بشجاعتهما الشيخ عذبي الفهد الصباح واللواء محمود الدوسري.
كان يسع هؤلاء أن ينجوا بجلودهم، أو أن يختاروا طريق التعاون مع الغازي كما فعل آخرون، أو أن يهربوا تاركين الوطن لمصيره المجهول، إلا أنهم آثروا البقاء في قلب الخطر، رافضين أن يُسجَّل عليهم التاريخ لحظة خيانة أو هروب. قاتلوا بما ملكوا من عزيمة لا من عتاد، لأنهم لم يسكنوا الكويت، بل الكويت هي التي سكنت وجدانهم.
واليوم، بعد خمسة وثلاثين عاما، يُكافَؤون بسحب الجنسية. إنّه ظلم بيّن حرّمه الله وجعله من كبائر المظالم بين عباده.
الشهيد حسن غلوم الكندري
الشهيد حسن غلوم الكندري، رائد في الجيش الكويتي، اعتقله الغزاة الصداميون وقتلوه، ولم يُعثر على رفاته إلا بعد أربعة عشر عاما. وفي عام 2025، سُحبت الجنسية من والده، فشمل القرار أبناءه بالتبعية، وكان الشهيد أحدهم.
كيف تُنتزع الهوية التي شرفها بدمه؟ كيف ينظر أبناؤه اليوم إلى صورته المعلقة في بيوتهم، وهم يُقال لهم: أنتم "بدون"؟
الجنسية إن كانت تتشرف بأحد، فهي تتشرف بالشهداء. أما أن تتحول إلى أداة عقاب، فذلك قلب للميزان، وانسلاخ عن العدل الذي قامت به السماوات والأرض.
الجنرال الذي صار رئيسا
التاريخ يفضح المقارنة. خلّدت الولايات المتحدة اسم جورج واشنطن لأنه قاد المقاومة ضد الاستعمار البريطاني في 1776. وصار أول رئيس، وسُمّيت عاصمتها باسمه. الشعب الأمريكي آمن أن من ضحى يُبجَّل، فبَنوا أمة قوية.
وعلى الضفة الأخرى، نسقط من الذاكرة من ضحى، ونجرد الهوية ممن استشهد. فنفقد بذلك قيمة العدل التي بها تُبنى الأوطان وتنهض الأمم.
الخيانة الحقيقية: سرقة الوطن لا حمايته
المؤلم أنّ من خانوا الوطن في أحلك الظروف لم تُمسّ جنسياتهم. ففي أثناء الغزو الصدامي، وبينما كان المقاومون يواجهون المحتل بأرواحهم، كانت استثمارات الكويت في الخارج تُنهب وتُبدّد. وثبُت ذلك بأحكام صادرة عن القضاء الكويتي، لا بمجرد روايات، إذ تورطت شخصيات نافذة في الاستيلاء على ما يقارب ثمانين مليون دينار من أموال الاستثمارات الكويتية في لندن، من بينهم الشيخ فهد المحمد الصباح (رحمه الله)، وفؤاد جعفر، وخالد ناصر الصباح.
ومع هذا، لم يُتخذ بحقهم إجراء يوازي حجم الفعل، ولم تُسحب منهم الجنسية. وعلى الجانب الآخر، يُعاقَب من حمل السلاح دفاعا عن الوطن، وتُسلب هوية أسر الشهداء.
إنها مفارقة صارخة، وانتكاسه فاضحه، تخالف كل الشرائع السماوية، وتجعل الكرامة من نصيب الخائن، والعقوبة من نصيب المخلص.
وزير الداخلية: عبد مأمور
كثير من الأصوات تصبّ غضبها على وزير الداخلية الشيخ فهد اليوسف، لكن الواقع أنّه منفذ لأوامر مجلس الوزراء لا واضعها "وأنا هنا لا التمس له العذر ولا أبرر قراراته ولا أخلي مسؤوليته". وقد يتعجب القارئ أن معرفتي الشخصية بالرجل تجعلني أؤكد أن الصورة ليست كما تُرسم له. فقد التقيته عام 2008 في مكتبه بالسالمية ضمن عمل خيري، ورأيت عن قرب عطاءه ومحبته للخير، وسمعت عنه شهادات كثيرة في دعم الجمعيات وأصحاب الحاجات.
ومن خبرته كعسكري شارك في أصعب لحظات الكويت، وسيرته في البذل والعطاء، أستبعد تماما أن يكون مقتنعا بسحب جنسية مقاومين أو أسر شهداء. أبا فيصل مأمور يوقع تنفيذا لتوجيهات عليا، لا عن قناعة شخصية. القرار إذا سياسي في جوهره، لا إنساني ولا وطني.
بمن تتشرف الهوية؟
من حمل السلاح ضد الغزو، ومن ارتقى شهيدا، هم أحق الناس بالهوية الكويتية. الهوية الوطنية نفسها تتشرف بهم، لا العكس.
التاريخ لن يغفر من ظلمهم، والشعوب لا تنسى من جحد أبطالها. فالعدل وصية الله لعباده، والظلم ظلمات يوم القيامة. ﴿تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾.