العلاقة الغرامية بين المجلس البلدي وتثمين قصر دسمان
من ديموقراطية 2014 إلى الخضوع في 2025
المحرر د. عبدالله محمد الصالح
حين كان النقاش مسموحا: المجلس يرفض بثقة
في الرابع من فبراير 2014، تقدَّم رئيس المجلس البلدي مهلهل الخالد بمبادرة ترمي إلى استملاك قصر دسمان وتحويله إلى مقر رئاسي يخضع لإشراف مجلس الوزراء، مستندا إلى ما يحمله القصر من رمزية وطنية وتاريخية. كانت رؤيته تستلهم تجارب الدول التي تحترم معمارها السياسي وتربط بين الذاكرة العمرانية والسلطة المعاصرة.
المثير في تلك اللحظة لم يكن مضمون المقترح وحده، بل الإطار العام الذي سمح بطرحه ومناقشته علنا. إذ أتيح لأعضاء المجلس البلدي أن يخوضوا نقاشا شفافا حول جدوى المشروع، انتهى برفضه في جلسة رسمية عُقدت في 11 نوفمبر من العام نفسه، استنادا إلى أولويات إنمائية ومالية يرونها أكثر إلحاحا، خصوصا في ظل تكدّس ملفات التثمين في مناطق شعبية تنتظر منذ سنوات.
كان ذلك الرفض تعبيرا عن مؤسسة لا تزال تمارس دورها بمستوى من الاستقلالية، وعن بيئة سياسية تسمح بالرأي المخالف دون قمع أو تكميم.
عودة الصفقات في ظل الغياب: لا رأي، لا مراجعة، لا رقيب
وبعد أكثر من عقد، عاد الملف إلى الواجهة، غير أنه اتخذ هذه المرة طابعا إداريا باهتا، مغلّفا بالإجراءات الصامتة، ومجرّدا من أي نقاش علني. الأسئلة غابت، والحقائق أُخفيت، والرأي العام استُبعد عمدا وسار القرار كما تُطمس المعالم في مسرح الجريمة: بلا شهود، ولا مساءلة، ولا أثر يُترك خلفه.
بمليار و400 مليون: تثمين الذاكرة وتفريغ المعنى
في التاسع والعشرين من أبريل 2025، أقرّت اللجنة الفنية في المجلس البلدي استملاك موقع قصر دسمان، تمهيدا لتسجيله ضمن السجل الوطني للمباني التاريخية. وبعد نحو أسبوعين، صادق المجلس البلدي رسميا على تقرير المنفعة العامة المتعلق بالقسيمة، دون أن يظهر في محاضر الجلسة ما يشير إلى نقاش فعلي أو اعتراض موثّق.
وراء هذا الإجراء البسيط في ظاهره، تكمن صفقة ضخمة تبلغ قيمتها نحو مليار وأربعمائة مليون دينار كويتي، تُدفع كتعويض عن نزع الملكية لصالح ورثة الشيخ أحمد الجابر الصباح.
مبلغ يكفي لبناء جامعة وطنية، أو شبكة مترو حديثة، أو مستشفى حكومي بمواصفات عالمية، ذلك الرقم، بما يحمله من دلالات سياسية وأخلاقية، تسلّل إلى خانة التنفيذ دون مراجعة، كأنّ المال العام لم يعُد شأنا عاما.
ما وقع لا يكشف فقط عن مشروع تثمين ضخم، بل يعبّر عن تفريغ ممنهج لوظيفة المؤسسات العامة.
في السابق، كان يمكن لأي ملف كبير أن يُرفض في جلسة علنية، وأن يُسائل المسؤولون عنه في الإعلام والبرلمان. أما الآن، فالقرارات تُوقّع في غياب الكاميرات، وتُنشر خالية من التفاصيل، وتُسلَّم للناس باردة، كأمر واقع لا يُراجع.
أعضاء المجلس البلدي، القدامى والجدد، آثروا الصمت، وتواروا خلف اللجان، وكأن القضية لا تعنيهم.
بينما وسائل الإعلام، التي كانت تراقب وتُناظر وتُحاور، فقد اكتفت هذه المرة بإعادة نشر البيان، كأنها لم تكن يوما مرآة للناس.
قصر دسمان: من رمز للسيادة إلى فرصة للتربّح
قصر دسمان لا يُختزل في كونه مبنى قديما، بل كان شاهدا على تشكّل الدولة الحديثة، ومقرا لسلطة القرار في مراحل مفصلية من تاريخ الكويت. وبدل أن يُعاد الاعتبار له باعتباره مرفقا سياديا يمثل الذاكرة السياسية الوطنية، جرى التعامل معه كعقار مملوك يُقاس بالأمتار، ويُثمَّن كأي أصل قابل للتعويض.
جُرّد القصر من روحه، وجرى تحويله إلى بند مالي، لا إلى معلم وطني.
وفي الوقت الذي يُطلب فيه من المواطن شد الحزام، فُتح الخزان لمن لا يحتاجه، وصُرفت الأموال كأن لا أحد يرى، ولا أحد سيحاسب.
المخاض العسير: نهاية عهد وبداية مساءلة قادمة
ما حدث في ملف تثمين قصر دسمان يختصر ما آلت إليه الدولة: من ديموقراطية حذرة تُراجَع فيها القرارات، إلى منظومة مغلقة تُنفّذ فيها المشاريع بلا مساءلة. ومن مجلس بلدي يرفض مشروعًا علنا، إلى مجلس يُمرّر صفقة عقارية في غياب البرلمان والصحافة والرأي العام.
في 2014، كانت الجلسات تُنقل، والأصوات تُحسب، والنتائج تُدوّن.
في 2025، خفتت الأصوات، وذُبحت الأسئلة، وكُتبت نهاية النقاش بيد من كان يفترض به أن يبدأه.
نعم، حُسم التثمين على الورق، لكن ما صودر فعلا هو دور الناس في الفهم، والمحاسبة، والرفض.
وإذا غابت العدالة اليوم، فالتاريخ لا يسقط بالتقادم.
قال النبي ﷺ: "إذا ضُيِّعت الأمانة، فانتظر الساعة".
وإن لم تحضر العدالة في هذا الزمن، فإن ذاكرة الأمة ستُعيد المحاكمة، والأسماء لن تُنسى بعد زوال هذه الحقبة المظلمة.