loader image
#19

تثمين قصر دسمان بمليار لنهب ثروة الشعب

من رمز للسيادة إلى فاتورة تُسدَّد من جيب الشعب

تثمين قصر دسمان بمليار لنهب ثروة الشعب

 

في قلب العاصمة الكويتية، ينتصب قصر دسمان شاهقا، لا كشاهد حجري فحسب، بل كأثر سيادي محفور في ذاكرة الوطن. منذ أن وضع الشيخ جابر بن مبارك الصباح حجره الأول عام 1904، ثم أكمله ابنه الشيخ أحمد الجابر عام 1930، ظل هذا القصر مقرا للحكم، ومرآةً سياسية عكست تحولات الدولة في لحظاتها الفاصلة.

 

ولئن كانت الأرض التي شُيّد عليها القصر ملكا لعائلة آل صباح، فإنّ بناؤه تم في زمن لم تعرف فيه الكويت موازنة عامة، ولا مداخيل سيادية فكل ما شييد حينذاك، كان بأموال الكويتيين، من جيوب التجار وأكُف المواطنين، الذين كانوا يدفعون الإتاوات والضرائب لتُدار بها شؤون الدولة وتُبنى بها قصورها.

 

 

 

قصر بُني بضرائب الكويتيين ... ويُباع لهم من جديد

 

وإذ تُطرح اليوم قضية تثمين قصر دسمان بمبلغ يُناهز المليار وأربعمئة مليون دينار كويتي، فإنّ هذا ليس نقاشا عقاريا، إنما شأنٌ أخلاقي ووطني من الطراز الأول. أيعقل أن تُصرف مثل هذه الأموال في وقت تتحدّث فيه الدولة عن عجز مالي خانق، وتستعد لاقتراض ثلاثين مليارا من الدنانير؟ كيف يُقبل أن تُقشّر امتيازات المواطنين، وتُرفع أسعار الكهرباء والتموين، ثم تُفرَغ خزينة الشعب لسداد فاتورة قصر؟

 

والأخطر من كل ذلك، أن هذا القرار جاء في غياب المؤسسات: مجلس الأمة مُعطَّل، والمجلس البلدي خاضع، والسلطة تُقرر وحدها، ثم تُنفّذ بلا مراجعة ولا مساءلة.

 

لقد تحوّل قصر دسمان من مقر للسيادة إلى صفقة، ومن أثر للذاكرة إلى عبء على الخزينة، ومن رمز للحكم إلى غنيمة يراد بها اقتطاع مال الشعب.

 

 

 

قصر الشيخ عبدالله الجابر ... حين يُهدي التاريخ نفسه للوطن

 

وفي الضفة الأخرى من هذا المشهد الملتبس، يسطع مثال نبيل يُجسّده قصر الشيخ عبدالله الجابر الصباح. إن هذه الأرض التي شُيّد عليها القصر لم تكن موروثة، بل كانت في الأصل هدية من الشيخ مبارك الكبير إلى أمير المحمرة الشيخ خزعل عام 1916، ليبني فيها ديوانه في منطقة دسمان. وفي منتصف الأربعينيات، قام الشيخ عبدالله الجابر بشراء القصر من ورثة الشيخ خزعل، دون أن يدّعي حقا موروثا، أو يستند إلى صلة قرابة أو تاريخية، بل دفع ثمنه كاملا من ماله.

 

وبعد سنوات، وفي بادرة وطنية نادرة، تقدّم طوعا عام 1957 بالتنازل عن هذا القصر للدولة الكويتية، ليُحوَّل إلى متحف يوثق الذاكرة التاريخية والثقافية للوطن. لم يكن ذلك في لحظة وداع أو ضعف، إذ عاش بعدها أكثر من أربعين سنة، بل كان قرارا صلبا نابعا من قناعة داخلية بأن الأوطان تُبنى بالعطاء لا بالجباية، وبالرمز لا بالسعر.

 

هكذا تُمنَح الأوطان... لا كما يُساوَم عليها

 

 لم يُثمِّن القصر، ولم يُساوَم عليه، ومع ذلك بات من أبرز المعالم الثقافية، وسُجّل رسميا في قائمة اليونسكو، واحتُفل به في افتتاح رسمي يليق برمزيته. إنه نموذج مُشرّف يُضرب به المثل، ويُقدَّم اليوم كحُجّة أخلاقية في وجه كل من أراد أن يُثمن الرموز، ويبيع ذاكرة الوطن بثمن يُسجَّل في دفتر خزينة، لا في وجدان أمة.

 

والسؤال البديهي: إذا كان قصر عبدالله الجابر لم يُثمَّن، أفلا يحق لأحفاده اليوم أن يطالبوا بالمثل؟
وإن طالبوا، أفلا يُعَدّ ذلك منطقا طبيعيا في ظل هذا التسيّب في المعايير؟ أليس تثمين قصر دسمان اليوم تمييزا فاضحا بين أبناء الأسرة الواحدة، بل بين المواطنين كافة؟

 

هذا المثال يُسقط حجة من يريدون تحويل القصور إلى صكوك مالية، ويفضح ازدواجية دولة تُكافئ الصفقات وتنسى المواقف.

 

 

 

 

قصر باكنغهام ... حين يحتكم التاريخ إلى القانون

 

في قلب لندن، يقف قصر باكنغهام لا كرمز ملكي فحسب، بل كمؤسسة سيادية تُدار منذ قرنين بمنطق الدولة لا العائلة. فحين أبرم الملك جورج الثالث اتفاقه مع البرلمان عام 1760، وضع أملاكه –بما فيها هذا القصر– تحت تصرّف الدولة، مقابل منحة سيادية تُصرف له سنويا.

منذ ذلك الزمان، لا يجرؤ أحد من ورثة الملك أن يطالب بتعويض، أو يسعى لتثمين القصر، أو يُلوّح بملكيته. لا لأنّهم أقل ثراء أو نفوذا، بل لأنّ ثمة نظاما يحكم، ودولة تضبط، وقانونا يُحتَكم إليه.

 

في بريطانيا الدولة فوق القصور... في الكويت القصور فوق الدولة

 

قصر باكنغهام بات من أبرز المعالم السياحية والثقافية في العالم، ومع ذلك لم يفكر أحدٌ من سلالة جورج الثالث أن يحوّله إلى "شيك مفتوح".
أما نحن، فما زلنا، في عام 2025، نتجادل في أمر كان ينبغي حسمه منذ عقود: هل قصر دسمان ملك خاص؟ أم ملك دولة؟ أم ذكرى وطنية تُصان؟

 

هل يُثمَّن ما لا يُشترى؟

 

إنّ تثمين قصر دسمان ليس خطأ ماليا فقط، بل انحراف في المفاهيم الوطنية. فالأوطان لا تُبنى على عقود التثمين، ولا تُدار بالصفقات، ولا تُشترى ولاءاتها بالمليارات.
قصر دسمان يجب أن يُصان كذاكرة وطنية لا كسلعة عقارية. فإن أبى الورثة التنازل، فليُطرح في مزاد علني، كما قضت المحاكم ذات يوم. أما أن يُقتطع له من خزينة يأنّ شعبها تحت وطأة العجز، فتلك كارثة لا تُغتفر، لا قانونا ولا أخلاقا.

 

وفي الختام، نقول:
الوطن ليس خزينة مفتوحة،
ولا التاريخ تركة قابلة للبيع،
ولا الرموز الوطنية أوراقا تُثمن على طاولة مَن شاء.