سحب الجنسية الكويتية من الأعمال الجليلة
من تكريم الدولة إلى إنكارها .. حكاية الجليلة
- المحرر د. عبدالله محمد الصالح
العقل قبل الأصل: درس من قصة يوسف
من أبلغ مشاهد القرآن الكريم ما ورد في قصة يوسف عليه السلام، حين رأى ملك مصر من ذلك السجين الغريب علما وفهما وتدبيرا، فقال: ﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾، ثم قال له: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾. فوّض إليه خزائن البلاد، مع أنه غريب عن الأرض، وسجين لا نسب له فيها. لكنه امتلك ما هو أرفع شأنا: العقل، والأمانة، والبصيرة.
ذلك المشهد القرآني يقدّم مبدأ حاكما في منطق الدول العاقلة: العبرة بالكفاءة لا بالأصل، وبالعمل لا بالنسب. فمن أراد النهضة، فعليه أن يكرّم أصحاب الفضل لا أن يضيق عليهم أو يستبعدهم.
الكفاءة تصنع المستقبل
تتبنّى الدول الواعية سياسات واضحة في استقطاب العقول وتجنيس الكفاءات. ويُعرف هذا التوجه عالميا بـ"Brain Gain" أو كسب العقول. أما طرد الكفاءات أو سحب جنسياتهم بعد عقود من العطاء، فهو علامة على "Brain Drain"، أي نزيف العقول نحو بيئات أكثر عدلا واحتضانا.
الواقع الكويتي يعكس هذا الاتجاه السلبي، حيث شهدت البلاد موجات متتالية من سحب الجنسية من شخصيات خدمت الوطن طويلا، بعد أن نالت جنسيتها على بند "الأعمال الجليلة". والنتيجة: بيئة طاردة، وانكماش في الصورة الدولية، وتراجع في المؤشرات المؤسسية والتنموية.
الجنسية بعقد شرف لا مرسوم هش
منح الجنسية على بند "الأعمال الجليلة" يستند إلى المادة الخامسة من قانون الجنسية الكويتية، والتي تنص على:
"يجوز بمرسوم، بناء على عرض وزير الداخلية، منح الجنسية الكويتية لمن أدى خدمات جليلة للبلاد."
وبناء عليه، صدرت مراسيم أميرية مُوقّعة، تمنح الجنسية لمستحقيها من أصحاب العطاء والكفاءة. والمرسوم الأميري لا يُلغى اعتباطا، ولا يخضع للمزاج السياسي، ولا يُبطَل بأثر رجعي دون سند دستوري أو حكم قضائي عادل.
أسماء طُعنت في مواطنتها بعد عقود من العطاء
قرارات السحب شملت شخصيات علمية، دينية، طبية، فنية وتجارية بارزة، نذكر منهم:
الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق
الشيخ عبدالله السبت
الدكتور عيسى زكي
الشيخ رائد الحزيمي
الدكتور مثنى سرطاوي
الدكتور محمد سرطاوي
الدكتور رياض الطرزي
الدكتور محمد السيد قطب
الدكتور موسى سلامة جبر
الدكتور محمد جمال الأفغاني
الشيخ أحمد مشعان الجربا
الشيخ نايف جديع الهذال
التاجر نائل الزياني
الفنانة نوال الكويتية
الفنان داود حسين
الملحن فهد الناصر
اللاعب فهد العنزي
اللاعب مؤيد الحداد
المذيع ابرهيم أبوعيده
جميع هؤلاء لم يُحاكموا، ولم تُسجّل ضدهم تهم تهدّد الأمن الوطني، وقد نالوا تكريما رسميا وشعبيا، ثم أُسقطت جنسيتهم في سياق إداري خال من الشفافية والمساءلة. ومن بين الأسماء من رحل عن الدنيا بعد إسقاط جنسيته، لكن الاستهداف لم يقف عنده، بل امتد ليطال أبنائه، محرّكا الدولة نحو نزع الحقوق عن جيل بأكمله دون محاكمة أو سند قانوني.
التجنيس في خدمة الرؤية
على الضفة الأخرى، تبنّت المملكة العربية السعودية منذ عام 2019 سياسة واضحة في تجنيس الكفاءات والمبدعين، دعما لرؤيتها 2030. قائمة المجنسين شملت علماء، أطباء، خبراء تقنيين، وباحثين في مجالات حيوية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر:
- جاكي يينغ (عالمة نانو وتقنية حيوية)
- نيفين خشاب (مخترعة في التطبيقات الطبية)
- د. معتصم الأزرق (جراح أعصاب)
- فراس خالد (منصة نون)
- نور الدين غفور (خبير تحلية مياه)
هذا التجنيس لم يكن إجراء رمزيا، بل جزءا من سياسة تنموية شاملة تراهن على الإنسان، وتُعلي من قيمة الكفاءة فوق كل اعتبار.
التقييم الصريح: مؤشر الابتكار العالمي
وفقا لتصنيف Global Innovation Index، كانت الكويت في المرتبة 60 عالميا عام 2018، فيما جاءت السعودية في المرتبة 61.
وبعد خمس سنوات فقط، تغيّر المشهد كليا:
- السعودية ارتقت إلى المرتبة 47
- الكويت تراجعت إلى المرتبة 71
الأرقام تُظهر أثر التجنيس الإيجابي في السعودية، مقابل نتائج سلبية في الكويت نتيجة طرد الكفاءات وتهميش أصحاب الإنجاز.
تكريم في فرنسا .. وتنكّر في الكويت
شاب من مالي لا يحمل إقامة شرعية أنقذ طفلا من السقوط من الطابق الرابع في باريس. فاستقبله الرئيس ماكرون، ومنحه وسام الشجاعة، والجنسية الفرنسية، ووظيفة رسمية.
وفي المقابل، مواطن خدم الكويت خمسين عاما، تُسحب هويته الوطنية، وتُصادر حقوقه، وتُطالبه الدولة بنقل ملكية عقاراته إلى أحد أقربائه الكويتيين خلال فترة محددة.
أي النموذجين أحق بأن يُحتذى؟
لا دولة بلا عدالة .. ولا نهضة بلا عقول
أخطر ما في قضية سحب الجنسية من أصحاب "الأعمال الجليلة" أنها تهدم قاعدة المواطنة القانونية، وتحوّل الدولة إلى كيان لا يعترف بالفضل ولا يحترم تاريخه.
ما يجري لا يهدد الأفراد فحسب، بل يُضعف ثقة المجتمع بالدولة، ويضع سمعتها على المحك.
الكويت ليست بحاجة إلى مزيد من الشعارات. ما تحتاجه هو وقفة مراجعة.
لا نهوض يُرجى، إن كان أول من يُقصى هو من قدّم وأخلص.
بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ
وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرامُ
وهذا هو لسان حال من خُذِل بعد أن أفنى عمره في خدمة وطن لم يبادله الوفاء.